تبني الكاتبة ابتسام عازم روايتها «سِفر الاختفاء» على فرضية تبدو ضربا من العبث: ماذا يحدث عندما تفيق إسرائيل ذات يوم لتكتشف أن الفلسطينيين قد اختفوا عن وجه الأرض؟ يتسبب هذا الحدث في إعلان حالة من الطوارئ في دولة خُلقت على أنقاض محو الوجود الفلسطيني: يتم فورا استدعاء الجيش وقوات الاحتياط، تستنفر وزارة الدفاع ومسؤولو الأجهزة الأمنية، ويلقي رئيس الوزراء خطابا طارئا في الكنيست لوضع خطة استراتيجية جديدة لدولته في ظل مستجدات واقع جديد تتحقق فيه الأسطورة الصهيونية: أرض بلا شعب! لا في الأراضي المحتلة، لا في المخيّمات، لا في مناطق الـ 48! كلهم تبخروا. اختفوا!
وفي خضّم هذه التحولات الكبرى، تتلمّس الرواية وقْع هذا الحدث الجلل في مسار حياة الصحافي الإسرائيلي أريئيل ليفي المقيم في شقة في عمارة في تل أبيب مشرفة على بحر يافا المحتلة، حيث تمتد البيوت العربية القديمة الي هُجّ.ر أهلها في الـ48.
من شرفته يطل أريئيل على بيت عائلة «علاء عساف» المهجّرة وجاره الحالي في الطابق الثالث. بين أريئيل وعلاء علاقة ملتبسة من حسن الجوار، لا تخلو من اختلال في ميزان القوى. تكمن قوة الرواية في سبر طبيعة العلاقة بين الشخصيتين: الإسرائيلي المولود في تل أبيب وعلاء، ابن يافا، حفيد هدى، الجدّة الصامدة أمام الرحيل، التي آثرت هجْر زوجها بعد نزوحه إلى بيروت عن ترك يافا المعبقة بالياسمين وزهر اللوز وعطر البرتقال.
في سرد تتقاطع فيه أصوات الحاضر بأطياف الماضي، تولّد ثنائية أريئيل وعلاء عن أسئلة عديدة: البعض لها خصوصية النزاع الفلسطيني/ الإسرائيلي، كنقاشات عن النكبة والحرب والرحيل والتاريخ والذاكرة وحق العودة، والبعض تحفر في خصوصية إنسانية عابرة للزمان والمكان، كالفقْد والمرض وموت الأب وانتهاء الحب. وفي فصول الرواية المقسمة إلى 49 فصلا، تتجلّى طبيعة العلاقة الجدلية بين البطلين كاشفة عن الصدوع والشروخ في ثنائية الأنا والآخر؛ عندما يصاب الصحافي الإسرائيلي، المعتاد على كتابة المقالات في جريدة نيويورك تايمز، بحالة توتر شديدة جراء اختفاء «صديقه اللدود» علاء وبقية شعبه، لا تمكنه من كتابة مقاله المعتاد، يقضي أريئيل أوقاتا طويلة في النبش في شقة الفلسطيني (حامل الجنسية الإسرائيلية) الغائب. يبعثر أغراضه ومذكراته، يتأمل في كتبه ولوحاته، يتمدد على سريره، يستحم في حمامّه، يشرب من قهوته العربية بالهال، يستمع إلى موسيقاه، بل يأكل من جبنته وبندورته وخياره وزيتونه! كل هذا في سبيل إيجاد دليل قد يقود إلى سر الاختفاء! في هذه الفصول بالذات، يفكك السرد الروائي بحرفية عالية، لا تخلو من المفارقة، مستويات عديدة من خطاب الهيمنة وتحليل الممارسات الاستعمارية الاستيطانية، مذكراً بكتابات «ما بعد الكولونيالية» لفرانز فانون في كتابه «بشرة سوداء/أقنعة بيضاء» عن علاقة المستعم.ر والمستعمَر، وكتابات جدلية السيد/ العبد لهيغل، ودراسات ما بعد الاستعمار لفوكو وإدوارد سعيد وهومي بابا. ففي غياب الجار المفاجئ، يعيد أريئيل ممارسات استيطان الحيّز/الفضاء الفلسطيني من جديد بلا أدنى شعور بالذنب، بل ان «احتلال» أريئيل لشقة علاء تمثيل لإعادة إنتاج مشروع النكبة 48، وفرض دولة إسرائيل 1949 قانون «أملاك الغائبين» للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية في ظرف «غياب» ملاّكها، وإعادة استنساخ لممارسات الاستعمار في المحو، الإحلال، الانسلاخ والتعدّي على ممتلكات الآخر.
تكمن قوة الرواية في حفاظها على عنصري اللعبة الروائية: الإدهاش والتشويق. وهذا يحسب لرواية تتناول مأساة النكبة الفلسطينية، التي كبرت وشاخت ودخلت الآن عقدها السابع. فتثبت الروائية ابتسام عازم أن فلسطين هي أرض العجائب حقا، وأن الحكاية ما زالت مستمرة، وأن جيلا روائيا شاباً متمكناً من خلق وابتكار قوالب إبداعية جديدة ومتجددة للحكاية العجوز التي ما زالت تنتظر حلاً. يبقى القارئ متشبثاً بالرواية في انتظار خلاص كانتظار «غودو» في مسرحية صمويل بيكيت، مدركا في قرارة نفسه أن قدوم «غودو» ضرب من العبثية المفرطة، لكنه لا يفقد الأمل بقدوم الخلاص. لن أفسد ختام الرواية بكشف سر «س.فر الاختفاء»، لكن من المؤكد أن النهاية تأتي مقنعة، مؤثرة، ومسكونة بأرواح تُبعَث من جديد.
[عن جريدة "القبس" الكويتية]
[غلاف رواية "سفر الاختفاء" للكاتبة الروائية ابتسام عازم الصادرة عن دار الجمل بيروت/ بغداد]